فصل: قال محمد أبو زهرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فلما ثبت أن المراد بهذه الآية هو إبو بكر ثبت أن قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وصف لأبي بكر، ومن وصفه الله تعالى بذلك يمتنع أن يكون ظالمًا، وذلك يدل على أنه كان محقًا في إمامته، وثانيها: قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} وهو صفة أبي بكر أيضًا الدليل الذي ذكرناه، ويؤكده ما روي في الخبر المستفيض أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ارحم أمتي بأمتي أبو بكر» فكان موصوفًا بالرحمة والشفقة على المؤمنين وبالشدة مع الكفار، ألا ترى أن في أول الأمر حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة وكان في غاية الضعف كيف كان يذب عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف كان يلازمه ويخدمه، وما كان يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم، وفي آخر الأمر أعني وقت خلافته كيف لم يلتفت إلى قول أحد، وأصر على أنه لابد من المحاربة مع مانعي الزكاة حتى آل الأمر إلى أن خرج إلى قتال القوم وحده، حتى جاء أكابر الصحابة وتضرعوا إليه ومنعوه من الذهاب، ثم لما بلغ بعث العسكر إليهم انهزموا وجعل الله تعالى ذلك مبدأ لدولة الإسلام، فكان قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} لا يليق إلا به، وثالثها: قوله: {يجاهدون في سَبِيلِ الله وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ} فهذا مشترك فيه بين أبي بكر وعلي، إلا أن حظ أبي بكر فيه أتم وأكمل، وذلك لأن مجاهدة أبي بكر مع الكفار كانت في أول البعث، وهناك الإسلام كان في غاية الضعف، والكفر كان في غاية القوة، وكان يجاهد الكفار بمقدار قدرته، ويذب عن رسول الله بغاية وسعه، وأما علي عليه السلام فإنه إنما شرع في الجهاد يوم بدر وأُحد، وفي ذلك الوقت كان الإسلام قويًا وكانت العساكر مجتمعة، فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي من وجهين: الأول: أنه كان متقدمًا عليه في الزمان، فكان أفضل لقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل} [الحديد: 10] والثاني: أن جهاد أبي بكر كان في وقت ضعف الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهاد علي كان في وقت القوة، ورابعها: قوله: {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} وهذا لائق بأبي بكر لأنه متأكد بقوله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة} [النور: 22] وقد بينا أن هذه الآية في أبي بكر، ومما يدل على أن جميع هذه الصفات لأبي بكر أنا بينا بالدليل أن هذه الآية لابد وأن تكون في أبي بكر، ومتى كان الأمر كذلك كانت هذه الصفات لابد وأن تكون لأبي بكر، وإذا ثبت هذا وجب القطع بصحة إمامته، إذ لو كانت إمامته باطلة لما كانت هذه الصفات لائقة به.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه كان موصوفًا بهذه الصفات حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعد وفاته لما شرع في الإمامة زالت هذه الصفات وبطلت.
قلنا: هذا باطل قطعًا لأنه تعالى قال: {فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فأثبت كونهم موصوفين بهذه الصفة حال إتيان الله بهم في المستقبل، وذلك يدل على شهادة الله له بكونه موصوفًا بهذه الصفات حال محاربته مع أهل الردة، وذلك هو حال إمامته، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على صحة إمامته، أما قول الروافض لعنهم الله: إن هذه الآية في حق علي رضي الله عنه بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» وكان ذلك هو علي عليه السلام، فنقول: هذا الخبر من باب الآحاد، وعندهم لا يجوز التمسك به في العمل، فكيف يجوز التمسك به في العلم، وأيضًا إن إثبات هذه الصفة لعلي لا يوجب انتفاءها عن أبي بكر، وبتقدير أن يدل على ذلك لكنه لا يدل على انتفاء ذلك المجموع عن أبي بكر، ومن جملة تلك الصفات كونه كرارًا غير فرار، فلما انتفى ذلك عن أبي بكر لم يحصل مجموع تلك الصفات له، فكفى هذا في العمل بدليل الخطاب، فأما انتفاء جميع تلك الصفات فلا دلالة في اللفظ عليه، فهو تعالى إنما أثبت هذه الصفة المذكورة في هذه الآية حال اشتغاله بمحاربة المرتدين بعد ذلك فهب أن تلك الصفة ما كانت حاصلة في ذلك الوقت، فلم يمنع ذلك من حصولها في الزمان المستقبل، ولأن ما ذكرناه تمسك بظاهر القرآن، وما ذكروه تمسك بالخبر المذكور المنقول بالآحاد، ولأنه معارض بالأحاديث الدالة على كون أبي بكر محبًا لله ولرسوله.
وكون الله محبًا له وراضيًا عنه.
قال تعالى في حق أبي بكر {وَلَسَوْفَ يرضى} [الليل: 21] وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يتجلى للناس عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة» وقال: «ما صب الله شيئًا في صدري إلا وصبه في صدر أبي بكر» وكل ذلك يدل على أنه كان يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
وأما الوجه الثاني: وهو قولهم: الآية التي بعد هذه الآية دالة على إمامة علي فوجب أن تكون هذه الآية نازلة في علي، فجوابنا: أنا لا نسلم دلالة الآية التي بعد هذه الآية على إمامة علي وسنذكر الكلام فيه إن شاء الله تعالى، فهذا ما في هذا الموضع من البحث والله أعلم.
أما قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فتحقيق الكلام في المحبة ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] فلا فائدة في الإعادة.
وفيه دقيقة وهي أنه تعالى قدم محبته لهم على محبتهم له، وهذا حق لأنه لولا أن الله أحبهم وإلا لما وفقهم حتى صاروا محبين له. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} في موضع النعت.
قال الحسن وقَتَادة وغيرهما: نزلت في أبي بكر الصدّيق وأصحابه.
وقال السّدي: نزلت في الأنصار.
وقيل: هي إشارة إلى قوم لم يكونوا موجودين في ذلك الوقت، وأن أبا بكر قاتل أهل الردّة بقوم لم يكونوا وقت نزول الآية؛ وهم أحياء من اليمن من كندة وبَجِيلة، ومن أشجع.
وقيل: إنها نزلت في الأشعريين؛ ففي الخبر أنها لما نزلت قدِم بعد ذلك بيسير سفائن الأشعريين، وقبائل اليمن من طريق البحر، فكان لهم بلاء في الإسلام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عامة فتوح العِراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن؛ هذا أصح ما قيل في نزولها.
والله أعلم.
وروى الحاكم أبو عبد الله في «المستدرك» بإسناده: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أبي موسى الأشعري لما نزلت هذه الآية فقال: «هم قوم هذا» قال القُشَيري: فأتباع أبي الحسن من قومه؛ لأن كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد به الأتباع. اهـ.

.قال الفخر:

{أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين}.
هو كقوله: {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
قال صاحب الكشاف أذلة جمع ذليل، وأما ذلول فجمعه ذلل، وليس المراد بكونهم أذلة هو أنهم مهانون، بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب، فإن من كان ذليلًا عند إنسان فإنه ألبتة لا يظهر شيئًا من التكبر والترفع، بل لا يظهر إلا الرفق واللين فكذا ههنا، فقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} أي يظهرون الغلطة والترفع على الكافرين.
وقيل: يعازونهم أي يغالبونهم من قولهم: عزه يعزه إذا غلبه، كأنهم مشددون عليهم بالقهر والغلبة.
فإن قيل: هلا قيل: أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين.
قلنا: فيه وجهان: أحدهما: أن يضمن الذل معنى الرحمة والشفقة، كأنه قيل: راحمين عليهم مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع، والثاني: أنه تعالى ذكر كلمة {على} حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم، فيفيد أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم، بل ذاك التذلل إنما كان لأجل أنهم أرادوا أن يضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} {أَذِلَّة} نعت لقوم، وكذلك {أَعِزَّةٍ} أي يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم؛ من قولهم: دابّة ذلول أي تنقاد سهلة، وليس من الذلّ في شيء.
ويغلِظون على الكافرين ويعادونهم.
قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد لِلولد والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسبعُ على فريسته؛ قال الله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
ويجوز «أَذِلَّة» بالنصب على الحال؛ أي يحبهم ويحبونه في هذا الحال، وقد تقدّمت معنى محبة الله تعالى لعباده ومحبتهم له. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

فإن قيل: هلا قال أذلة للمؤمنين؟
أجيب: بأنه تضمن معنى الحنو والعطف كأنه قال: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع وأنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم أو للمقابلة في قوله تعالى: {أعزة على الكافرين} أي: شداد متغلبين عليهم من عزّه إذا غلبه. اهـ.

.قال محمد أبو زهرة:

وقد وصف الله تعالى أولئك الذين يأتى بهم في المكان الذي أخلاه المرتدون بأربع صفات هي من نعم الله تعالى عليهم، أولها- أن الله تعالى يحبهم وهم يحبونه، وإن محبة الله تعالى للمؤمنين أعلى ما يصل إليه أهل الإيمان من نعمه، ومحبة المؤمنين لله أعلى درجات الطاعة والإيمان.
ومحبة الله تعالى لعباده التي تليق بذاته الكريمة المنزهة عن مشابهة الحوادث، هي أعلى درجات الرضا، فهى ليست الجزاء على النعيم وحده، ولا الغفران وحده، ولكنها مع الرضوان أكبر من ذلك، وقد قال تعالى في جزاء المؤمنين الخالصين لله تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تمجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} التوبة.
وعندى أن مكافأة الله تعالى لعباده بفضل منه ثلاث مراتب: المرتبة الأولى- الغفران والنعيم المقيم، والمرتبة الثانية- رضاه سبحانه وتعالى، والمرتبة الثالثة- وهى أعلى درجات المحبة، وهى الرضوان الكامل، ومحبة الله حال تليق بذاته العلية.
هذه محبة الله تعالى، ومحبة العباد له سبحانه- الإحساس بتجاه النفس إلى الله تعالى، والشعور بأنه ملء نفسه وقلبه، وأنه لا يدخل في قلبه شيء غير عظمة الله تعالى وجلاله، فلا يحس بأن في الوجود غيره، وأن تلك المحبة ثمرتها القريبة الدانية الطاعة المطلقة لله ولرسوله، فلا يكون محبا من يعصى حبيبه، ولذا قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} آل عمران.
فالمحبة لله وطاعته، والقيام بالتكليفات الشرعية أمران متلازمان، فالطاعة لازمة للمحبة، وليس بصحيح ما يجرى على ألسنة بعض مدعى التصوف، من أن المحبة لله إذا وصلت إلى أعلى درجاتها، سقط التكليف بالأعمال الظاهرة، بل إن المحبة البالغة تزيد الطاعة تثبيتا، وأحب خلق الله تعالى لله، وأكثرهم محبة له سبحانه هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قصر في تكليفه قط، ولا يتصور منه ذلك، وقد طالبه الله تعالى بأكثر مما طالب به غيره، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)}.
الصفتان الثانية والثالثة- هما اللتان ذكرهما سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته:
{أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} والمعنى السامى لهذين الوصفين الكريمين أنهم أرقاء على المؤمنين في معاملتهم يخفضون جناحهم، كما قال تعالى في رفق الولد للأبوين: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} الإسراء. فهى ذلة حانية لأن خفض جناح الأخ لأخيه غير المتحكم فيه هي من قبيل التآلف العاطفى، لا من قبيل الخنوع الذميم.
ومعنى قوله السامى: {أعزة على الكافرين}. أنهم ينظرون إليهم نظرة العزيز الغالب لا نظرة الذليل الخانع، فهم لا يتملقونهم، ولا يترضونهم في غير مرضاة الله، و«عز» في أصل معناها غلب، كما قال تعالى: {وعزني في الخطاب} (ص). أى غلبنى في الخطاب، وسيطر على الخصومة. اهـ.